فصل: تفسير الآية رقم (278):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (278):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} واتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بقلوبكم فإن دليله امتثال ما أمرتم به. روي: أنه كان لثقيف مال على بعض قريش، فطالبوهم عند المحل بالمال والربا. فنزلت.

.تفسير الآيات (279- 280):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش {فآذنوا} أي فاعلموا بها غيركم، من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم، وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله، كالباغي ولا يقتضي كفره. روي: أنها لما نزلت قالت ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله. {وَإِن تُبتُمْ} من الارتباء واعتقاد حله. {فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ} بأخذ الزيادة. {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بالمطل والنقصان، ويفهم منه أنها إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} وإن وقع غريم ذو عسرة. وقرئ: {ذا عسرة} أي وإن كان الغريم ذا عسرة. {فَنَظِرَةٌ} فالحكم نظرة، أو فعليكم نظرة، أو فليكن نظرة وهي الإنظار. وقرئ: {فناظره} على الخبر أي فالمستحق ناظره بمعنى منتظره، أو صاحب نظرته على طريق النسب وفناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة. {إلى مَيْسَرَةٍ} يسار، وقرأ نافع وحمزة بضم السين، وهما لغتان كمشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإِضافة كقوله: {أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} {وَأَن تَصَدَّقُواْ} بالإبراء. وقرأ عاصم بتخفيف الصاد. {خَيْراً لَّكُمْ} أكثر ثواباً من الإِنظار، أو خير مما تأخذون لمضاعفة ثوابه ودوامه. وقيل: المراد بالتصدق الإِنظار لقوله عليه الصلاة والسلام، «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما فيه من الذكر الجميل الجزيل.

.تفسير الآية رقم (281):

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
{واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} يوم القيامة، أو يوم الموت فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم. {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب وتضعيف عقاب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً وقيل أحداً وثمانين يوماً. وقيل سبعة أيام وقيل ثلاثة ساعات.

.تفسير الآية رقم (282):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} أي إذا داين بعضكم بعضاً، تقول: داينته إذا عاملته نسيئة معطياً أو آخذاً. وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة ويعلم تنوعه إلى المؤجل والحال، وأنه الباعث على الكتبة ويكون مرجع ضمير فاكتبوه {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} معلوم الأيام والأشهر لا بالحصاد وقدوم الحاج. {فاكتبوه} لأنه أوثق وادفع للنزاع، والجمهور على أنه استحباب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم الله الربا أباح السلم. {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل} من يكتب السوية لا يزيد ولا ينقص، وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع. {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} ولا يمتنع أحد من الكتاب. {أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} مثل ما علمه الله من كتبة الوثائق، أو لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها كقوله: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} {فَلْيَكْتُبْ} تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن الإِباء عنها تأكيداً، ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة. {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} وليكن المملي من عليه الحق لأنه المقر المشهود عليه، والإِملال والإِملاء واحد. {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} أي المملي. أو الكاتب. {وَلاَ يَبْخَسْ} ولا ينقص. {مِنْهُ شَيْئاً} أي من الحق، أو مما أملى عليه. {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا} ناقص العقل مبذراً. {أَوْ ضَعِيفًا} صبياً أو شيخاً مختلاً. {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} أو غير مستطيع للإِملال بنفسه لخرس أو جهل باللغة. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم إن كان صبياً أو مختل العقل، أو وكيل أو مترجم إن كان غير مستطيع. وهو دليل جريان النيابة في الإِقرار ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل. {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} واطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان. {مّن رّجَالِكُمْ} من رجال المسلمين، وهو دليل اشتراط إسلام الشهود وإليه ذهب عامة العلماء وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض. {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} فإن لم يكن الشاهدان رجلين. {فَرَجُلٌ وامرأتان} فليشهد أو فليستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عندنا وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة. {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} لعلمكم بعدالتهم. {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} علة اعتبار العدد أي لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى، والعلة في الحقيقة التذكير ولكن لما كان الضلال سبباً له نزل منزلته كقولهم: أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، وكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وفيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن.
وقرأ حمزة {أَن تَضِلَّ} على الشرط فتذكر بالرفع. وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {فَتُذَكّرَ} من الإِذكار. {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} لأداء الشهادة أو التحمل. وسموا شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع و{مَا} مزيدة. {وَلاَتَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوه} ولا تملوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدين أو الحق أو الكتاب. وقيل كنى بالسأم عن الكسل لأنه صفة المنافق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يقول المؤمن كسلت» {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} صغيراً كان الحق أو كبيراً، أو مختصراً كان الكتاب أو مشبعاً. {إِلَى أَجَلِهِ} إلى وقت حلوله الذي أقر به المديون. {ذلكم} إشارة إلى أن تَكتبوه. {أَقْسَطُ عِندَ الله} أكثر قسطاً. {وَأَقْوَمُ للشهادة} وأثبت لها وأعون على إقامتها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على غير قياس، أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وإنما صحت الواو في {أَقْوَمُ} كما صحت في التعجب لجموده. {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} وأقرب في أن لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله والشهود ونحو ذلك. {إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} استثناء من الأمر بالكتابة والتجارة الحاضرة تعم المبايعة بدين أو عين، وإدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد أي: إلا أن تتبايعوا يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوا، لبعده عن التنازع والنسيان. ونصب عاصم {تجارة} على أنه الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كقوله:
بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا ** إذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعا

ورفعها الباقون على أنها الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامة. {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} هذا التبايع، أو مطلقاً لأنه أحوط. والأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة. وقيل: إنها للوجوب ثم اختلف في إحكامها ونسخها. {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يحتمل البناءين، ويدل عليه أنه قرئ: {وَلاَ يُضَارَّ} بالكسر والفتح. وهو نهيهما عن ترك الإِجابة والتحريف والتغيير في الكتب والشهادة، أو النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهم ويكلفا الخروج عما حد لهما، ولا يعطى الكاتب جعله، والشهيد مؤنة مجيئه حيث كان. {وَإِن تَفْعَلُواْ} الضرار أو ما نهيتم عنه. {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} خروج عن الطاعة لا حق بكم. {واتقوا الله} في مخالفة أمره ونهيه. {وَيُعَلّمُكُمُ الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم. {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} كرر لفظه الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم لشأنه. ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية.

.تفسير الآية رقم (283):

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} أي مسافرين. {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ} فالذي يستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان. وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في الإِرتهان كما ظنه مجاهد والضحاك رحمهما الله تعالى لأنه عليه السلام رهن درعه في المدينة من يهودي على عشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله، بل لإِقامة التوثق للإِرتهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنة إعوازها. والجمهور على اعتبار القبض فيه غير مالك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فرهن} كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون: وقرئ بإسكان الهاء على التخفيف. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الارتهان. {فَلْيُؤَدّ الذي اؤتمن أمانته} أي دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به. وقرئ: {الذي ايتمن} بقلب الهمزة ياء، و{الذي أتمن} بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا تدغم. {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات. {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} أيها الشهود، أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم. {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ} أي يأثم قلبه أو قلبه يأثم. والجملة خبر إن وإسناد الإِثم إلى القلب لأن الكتمان مقترفه ونظيره: العين زانية والأذن زانية. أو للمبالغة فإنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال، وكأنه قيل: تمكن الإِثم في نفسه وأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه. وقرئ: {قَلْبَهُ} بالنصب كحسن وجهه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تهديد.

.تفسير الآية رقم (284):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
{للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} خلقاً وملكاً. {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} يعني ما فيها من السوء والعزم عليه لترتب المغفرة والعذاب عليه. {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يوم القيامة. وهو حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض. {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} مغفرته. {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} تعذيبه، وهو صريح في نفي وجوب التعذيب. وقد رفعهما ابن عامر وعاصم ويعقوب على الاستئناف، وجزمهما الباقون عطفاً على جواب الشرط، ومن جزم بغير فاء جعلهما بدلاً منه بدل البعض من الكل أو الاشتمال كقوله:
مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا فِي دِيَارِنَا ** تجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وإدغام الراء في اللام لحن إذ الراء لا تدغم إلا في مثلها. {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على الإِحياء والمحاسبة.

.تفسير الآية رقم (285):

{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
{آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإِعتداد به، وإنه جازم في أمره غير شاك فيه. {والمؤمنون كُلٌّ ءَامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} لا يخلو من أن يعطف {المؤمنون} على {الرسول}، فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعاً إلى {الرسول} {والمؤمنين}، أو يجعل مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين. وباعتباره يصح وقوع كل بخبره خبر المبتدأ، ويكون إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال. وقرأ حمزة والكسائي: {وكتابه} يعني القرآن، أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل: الكتاب أكثر من الكتب. {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} أي يقولون لا تفرق. وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء على أن الفعل ل {كُلٌّ}. وقرئ: {لا يفرقون} حملاً على معناه كقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} واحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} ولذلك دخل عليه بين، والمراد نفي الفرق بالتصديق والتكذيب {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} أجبنا. {وَأَطَعْنَا} أمرك. {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} اغفر لنا غفرانك، أو نطلب غفرانك. {وَإِلَيْكَ المصير} المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث.

.تفسير الآية رقم (286):

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
{لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما تسعه قدرتها فضلاً ورحمةً، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من خير. {وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها، وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير. {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة، أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمةً وفضلاً فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتداداً بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} عبأً ثقيلاً يأصر صاحبه، أي يحبسه في مكانه. يريد به التكاليف الشاقة. وقرئ: {وَلاَ تَحْمِلْ} بالتشديد للمبالغة. {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} حملاً مثل حملك إياه على {مِن قَبْلِنَا}، أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإِصراً، والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة. أو ما أصابهم من الشدائد والمحن. {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من البلاء والعقوبة، أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه، والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني. {واعف عَنَّا} وامح ذنوبنا. {واغفر لَنَا} واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة. {وارحمنا} وتعطف بنا وتفضل علينا. {أَنتَ مولانا} سيدنا. {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، أو المراد به عامة الكفرة.
روي أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت. وعنه عليه السلام: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال: ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة، ولن يستطيعها البطلة قيل: يا رسول الله وما البطلة؟ قال: السحرة».